يستغرب المرء كيف إستطاع هذا البلد الصغير بمساحته (57،111 كم2) وبعدد سكانه (1،800،000 منهم 200,000 قطري) أن يحتل هذه المكانة الإستراتيجية على الصعيد الإقليمي. لكن هذا التطور، الذي يُكنُّ له الإحترام، وأهمية هذه الدولة على الخريطة العالمية، يُمكن تحليله عبر الأخذ بالإعتبار إحتياط قطر من الغاز. يتميز الإقتصاد القطري بنسبة نمو مُذهلة تفوق الـ 18% ركيزتها الأساسية الموارد النفطية. تمّ إكتشاف النفط في قطر في العام 1939، وإستغلت بريطانيا هذا النفط حتى عام 1971، تاريخ إستقلال قطر عنها. وبُعَيْدَ الإستقلال وضعت قطر إستراتيجية تعتمد على التنويع بهدف تقليص تعلقها بالقطاع النفطي. لكن اكتشاف أكبر حقل بحري للغاز في العالم شمال قطر، في منتصف الثمانينات غيّر المعادلة من ناحية جعلْ قطر تحتل المرتبة الثالثة بين دول العالم من حيث احتياطي الغاز الطبيعي. ويُقدّر إحتياط قطر من الغاز الطبيعي بـ 25،366 مليار م3 ومن النفط 25 مليار برميل. والمعروف أن البترول يتمتع بدور اجتماعي واقتصادي مهم من حيث أنه يدخل في صناعة 90% من المواد المستهلكة. وتُعتبر تجارة البترول الاولى في العالم من ناحية الكمية والقيمة. وقد جعل بيع البترول من الدول المنتجة دولاً غنية من حيث المردود والفائض للحكومات جاعلاً منهم دولاً لها وزنها على الصعيد العالمي. ويُشكل البترول العامل الاول في الحسابات الجيوسياسية للدول المتطورة لنسبة ارتباط اقتصادها بالنفط. من هنا، تبرز أهمية قطر من ناحية أن نضوب الغاز في هذا البلد لن يأتي قبل العام 2829 ومع ظاهرة النضوب، تعلُّقْ السوق الأوروبي بالغاز، والتقلبات في تسليم الغاز الروسي الى الأسواق الأوروبية، أخذت هذه الدول بالبحث عن مصدر جديد. هذا المصدر بلا شك هو قطر. وتكمن أسباب إختيار قطر في ثبات الحكم في قطر، إنفتاحه على الغرب وقدرة إقتصاده التنافسية. لكن هذا التحوّل في تاريخ قطر لم يلغ الإستراتيجية التنوعية التي إعتمدتها الحكومة، بل أخذت بالتطوّر منذ العام 2000، حيث عمدت الى الإستثمار محلياً وعالمياً بهدف جعل ميزانية قطر ممولة بشكل كلي من الإستثمارات غير النفطية بحلول العام 2020. وعلى الصعيد المحلي، قامت الحكومة بالإستثمار في أكبر مشروع في العالم لتسييل الغاز الطبيعي (راس غاز 3 وراس غاز 4) وتكسير الإيثان (عملية تحويل وتعديل الهيكلية والجزيئية للهيدروكربون من أجل الحصول على وزن أخف للجزيئات) كما وبناء المشروع البتروكيمائي قاتوفين. الجدير بالذكر أن هناك مشاريع أخرى لصناعات تحويلية منها إنتاج الألومينيوم المستورد من أوروبا بهدف تصديره الى أسيا (مثل اليابان وكوريا الجنوبية وغيرها). ولتنويع الإقتصاد القطري قامت الحكومة القطرية بتطوير إستراتيجية تطال المحاور التالية: – البنية التحتية: تعتمد الإستراتيجية على تنفيذ عدة مشاريع ضخمة منها مشروع “مدينة لوسيل” العقاري (على مساحة 35 كم2 ويستوعب 200،000 ساكن)، مشروع “Energy City” الذين تتكفل بتنفيذهم الديار القطرية، مشروع المطار، مشاريع سياحية لزيادة قدرة إستيعاب السواح (متاحف، فنادق…)، مشروع جسر بين قطر والبحرين، مشروع اللؤلؤة… – التعليم والأبحاث: أخذت مؤسسة قطر على عاتقها إنشاء قطب إقليمي للتعليم “واحة العلوم والتكنولوجيا في قطر” والذي يهدف الى جذب الشركات التي ترغب بالإستثمار بالأبحاث (ميكروسوفت، توتال…). وقد لقي المشروع ترحيباً عالمياً من قبل عدة جامعات ذات مرتبة عالية. – الرياضة: نفذت الحكومة القطرية عدة مشاريع سمحت لها بإستضافة عدة مواعيد رياضية عالمية وتطمح قطر بإستضافة بطولة كرة القدم العالمية. – الصحة: قامت الحكومة القطرية بإنشاء مركز السدرة للطب والبحوث وهو مركز طبي أكاديمي يعمل وفق أحدث ما توصّل إليه العلم من النظم الرقمية. ويتسّع هذا المركز لأكثر من 550 سريرا، وهو مخصّص لرعاية المرضى من النساء والأطفال. ويُقدّر مجموع الإستثمارات القطرية في هذه المحاور بـ 130 مليار دولار أميركي على 7 سنوات بحسب تصريح وزير المال القطري. على الصعيد العالمي، أخذت الحكومة القطرية بالإستثمار في عدة مشاريع وشركات عالمية في فرنسا، إيطاليا، أميركا، بريطانيا… هذه الإستثمارات التي يقوم بها جهاز قطر للإستثمار تشمل كل المجالات الصناعية، الخدماتية، المصرفية، والزراعية في العالم. ولخفض المخاطر الناتجة عن تقلب أسعار العملات، قام جهاز قطر للإستثمار بإعتماد التنويع في الإستثمارات بحسب العملات 40% من أصوله بالدولار الأميركي، 40% باليورو، و20% بباقي العملات. كل هذه الإنجازات دفعت بالإقتصاد القطري الى النمو بنسب هائلة وأدّت الى ناتج محلي إجمالي يفوق الـ 100 مليار دولار سنوياً. هذا النمو ترافق مع تضخّم هائل يُقدّر برقمين في السنة، ودفع بقطر الى موقع إستراتيجي على الخارطة العالمية تمثلت بدورها في ليبيا وتونس وفلسطين المحتلة ولبنان وسوريا. والمشروع القطري لمدّ أنابيب غاز من قطر الى اللاذقية في سوريا بهدف تصديره الى أوروبا، توقف بسبب رفض النظام السوري له. يبقى السؤال على الصعيد السياسي حول دور قطر في الثورات العربية والمنافسة مع المملكة العربية السعودية وتركيا على إحتلال مركز إقليمي مؤثر في القرارات السياسية لدول المنطقة. في الختام، نتمنى على المسؤولين اللبنانيين أن يحذوا حذو المسؤولين القطريين، من ناحية توزيع مردود الكميات الهائلة والواعدة من الغاز في المياه اللبنانية وأن يذهب هذا المردود الى الإنماء والإستثمار بما فيه مصلحة الشعب اللبناني والأجيال المقبلة.