حتى اللحظة الأخيرة، ظل شبح الفشل يُهيمن على المفاوضات بين إيران ودول الـ 5+1. لكن المصالح الاقتصادية الإيرانية والرغبة الأميركية بمنع إيران من إمتلاك السلاح النووي، دفعا إلى الوصول إلى إتفاق تاريخي. لكن السؤال المطروح: ماذا بعد الاتفاق؟ ستة وثلاثون عاماً من العقوبات على إيران كانت الثمن لقبولها بمفاوضات مع الغرب. عقوبات حاول النظام الإيراني تخطيها عبر إنجاز العديد من الصفقات التجارية مع دول أسيوية، أوروبية وحتى أميركية. والسر الإيراني كان يكمن في إستخدام شركات أسيوية كانت تلعب دور الوسيط، مقابل عمولات هائلة وكانت تقوم بتحاويل الى بلدان عدة لمنع السلطات المراقبة من إكتشافها. وبذلك تمكنت إيران من بيع قسم من بترولها دون أن تتمّ ملاحظة العمليات من قبل سلطات الرقابة – أقلّه خلال تنفيذها. فكلنا يتذكر كيف قامت الإدارة الأميركية في العام 2012 بملاحقة البنك البريطاني HSBC الذي أجرى معاملات بقيمة 16 مليار دولار مع إيران بعد تطبيق العقوبات. أيضاً يجب ذكر نظام تبادل السلع (نفط مقابل سلع) الذي إعتمدته إيران مع تركيا، اليابان، الصين، وأوكرانيا وغيرها من دول أسيوية. وتُشير الأرقام إلى أنه في الفترة المُمتدة بين أوائل العام 2012 وأوائل العام 2013، تضاعف التبادّل التجاري بين إيران وتركيا كما أنه زاد بنسب هائلة مع العراق خصوصاً مع الجنوب حيث تقطن الأغلبية الشيعية. لكن هذا الأمر لم يقتصر على هذه الدول بل إمتدّ إلى باكستان وأفغانستان وبعض الدول الخليجية كقطر والإمارات وسلطنة عُمان. ساعد إيران في تخطّي العقوبات في بعض الأحيان، الوضع الأمني في الشرق الأوسط الذي مرّ بمرحلة تخبّط خطفت الأضواء عمّا تقوم به إيران من معاملات تجارية. لكن السلطات الأميركية إنتبهت سريعاً إلى هذا الموضوع وقامت بفرض رزمة عقوبات جديدة ضربت بشكل كبير الاقتصاد الإيراني وعلى رأسها حظر المعاملات مع المصرف المركزي الإيراني. كما أن المملكة العربية السعودية قامت بالمحافظة على مستوى إنتاج عالٍ من إنتاج النفط بما أدّى إلى خفض سعر برميل النفط بشكل كبير (وصل إلى النصف) وبالتالي سجلّت الموازنة الإيرانية، التي كانت مُقرّة على سعر نفط 110 دولار أميركي للبرميل الواحد، عجزاً هائلاً دفعها إلى التخلي عن العديد من مشاريعها. نتائج متناقضة للعقوباتلا شك أن العقوبات الإقتصادية حققت أهدافها الأساسية أي خفض نمط عمليات التخصيب كما وخفض تمويل إيران للنظام السوري ولحزب الله، أضف إلى ذلك العجز شبه الكلّي عن تأمين دعم مالي للحوثيين. لكن بالنظر الى الداخل الإيراني، يُمكننا القول أن العقوبات أعطت نتائج مغايرة لما أرادته الحكومات الغربية وعلى رأسها حكومة الولايات الُمتحد الأميركية. فالتداعيات الاقتصادية على الداخل الإيراني خدمت النظام الإيراني وهي التي كانت من المفروض أن تؤدي إلى ثورة داخلية نتيجة فقدان السلع والبضائع وغلاء الأسعار. إلا أن الملاحظ أن هذه العقوبات شرعنت الخطاب المعادي للغرب ودعمت النظام عبر معاملة إيران على أساس مذهبي، كما أدّت العقوبات إلى تعزيز السيطرة العسكرية على القطاع الصناعي وأصبح المواطن الإيراني يعتمد بنسبة كبيرة على الدولة التي سيطرت على ما يزيد عن 80% من الاقتصاد الإيراني مع الحدّ من قدرة طبقة من رجال الأعمال المعارضين للنظام على تطوير أعمالهم الخاصة عبر التجارة الحرة مع العالم. ماذا بعد الاتفاق؟بدون أي تردد يُمكن القول أن إيران هي المُستفيد الأول من الاتفاق على البرنامج النووي الإيراني. هذه الإستفادة هي إقتصادية بالدرجة الأولى، أما على الصعيد السياسي فالأمور تعتمد على ما تمّ الاتفاق عليه فعلياً تحت الطاولة. على الصعيد الاقتصادي، وفي حال تمّ إقرار الإتفاق من قبل السلطات المعنية (الأمم المُتحدة، الكونغرس الأميركي…)، سيكون بمقدور إيران إسترداد الأصول المُجمدّة في دول العالم والتي تبلغ قيمتها ما بين 120 إلى 150 مليار دولار. كما أن رفع الحظر بالتعامل مع المصارف الإيرانية وعلى رأسها المصرف المركزي الإيراني، سيسمح لإيران بمعاودة التبادل التجاري مع بقية الدول. أيضاً ستنقض الشركات الأجنبية وخصوصاً النفطية للإستثمار في بلاد فارس في فترة يُعاني فيها الاقتصاد العالمي من قلة الفرص وذلك بتقديم السلع والبضائع إلى أكثر من 80 مليون إيراني يتوقون إلى إستهلاك البضائع الأجنبية وعلى رأسها التكنولوجيا التي من المفروض أن تدخل إلى الماكينة الاقتصادية الإيرانية مع بدء الإستثمارات الأجنبية. لكن الإستفادة الأولى للإقتصاد الإيراني ستكون عبر تصدير الغاز والنفط إلى باكستان والهند ودول جنوب شرق أسيا حيث أن فتح هذه الأسواق سيجعل من الاقتصاد الإيراني منافسا جدّيا للإقتصاد السعودي والتركي. ويبقى السؤال -من وجهة المعارضين للإتفاق- عن مدى «الحكمة» في وضع أموال طائلة بين يدي النظام الإيراني وهو الذي «يدعم الأنظمة المُناهضة للولايات المُتحدة الأميركية»؟ لذا سنشهد في الأشهر والأعوام المُقبلة الكثير من التشدد في تطبيق الاتفاق وخصوصاً «البعد العسكري المحتمل» للبرنامج النووي الإيراني من ناحية دخول مراقبي الوكالة الدولية للطاقة الذرية إلى المنشأت العسكرية المشكوك في أمرها حيث أن التقرير الذي أصدرته الوكالة الدولية للطاقة الذرية في 1 تموز الماضي، أشار إلى أن المخزون الإيراني من «سادس فلوريد اليورانيوم» وهو أحد أشكال اليورانيوم التي تُستخدم مباشرة في تصنيع الأسلحة النووية زاد بنسبة ملحوظة. بالطبع هذا الأمر سيؤخر حصول إيران على الأموال المُجمّدة كما والبدء بالتجارة العالمية مع الدول الأخرى. تحديات إقتصاديةفي حال حصلت إيران على رفع الحظر وإستردت أصولها المُجمّدة في الخارج، سيواجه النظام مُشكلتين أساسيتين: التضخم وتحرير الاقتصاد. على صعيد التضخم، ستواجه إيران مُشكلة كبيرة مع إزدياد الطلب على السلع في بلد توازي فيه نسبة التضخم الـ 50%. وهذا الأمر يتطلب الكثير من الحذر في الإستثمارات كما وفي السياسة النقدية التي من المفروض أن تسمح بإمتصاص التضخم الناتج عن ضخ الأموال في الاقتصاد عبر الأدوات التقليدية وغير التقليدية. ولن يكون من السهل إمتصاص هذا التضخم حتى من خلال سياسة نقدية حكيمة، لذا من المفروض البحث عن إستثمارات خارجية (لبنان مثلاً) لتفادي مشكلة التضخم. ثانياً هناك مشكلة تحرير القطاعات الاقتصادية من هيمنة الدولة التي تُسيطر على أكثر من ثلثي الاقتصاد، هذا التحرير سيسمح للإقتصاد الإيراني بنقلات نوعية مستفيداً من رافعة القطاع الخاص. فهل هناك إستعداد لهذا الأمر من قبل الحكومة الإيرانية؟ يبقى القول أنه على الحكومة اللبنانية إذا ما أرادت الإستفادة من هذا الاتفاق كما ستستفيد منه تركيا ودول الخليج وغيرها، أن تعمد إلى التعاطي المباشر مع حكومة طهران من دولة إلى دولة لأن تعاطي فئة واحدة من اللبنانيين مع إيران، سيُفشل أي إستفادة خصوصاً مع الإنقسام السياسي الحاصل في لبنان. وإحتمالات الإستفادة كثيرة وعلى رأسها القطاع الحراري والمصرفي والخدمات.