Prof. Jassem AJAKA
Physicist and Economist

لهذه الأسباب لن تنهار أسعار الشقق في لبنان

على الرغم من التراجع الاقتصادي الذي سجله لبنان خلال الأعوام الخمسة الماضية والجمود المُلاحظ في القطاع العقاري، لم تنخفض أسعار العقارات في لبنان. وإذا كانت بعض العمليات العقارية تتمّ بأسعار أقل من 10 إلى 20% من أسعار العام الماضي، إلا أن حجمها لا يسمح بالقول أن الأسعار ستنخفض والسبب يعود إلى عيوب إقتصادية تشوب قطاع العقارات كما سيُظهره هذا المقال يخبرنا التاريخ أن العديد من المُنجّمين حاولوا التنبؤ بالمستقبل من دون نجاح. والقصة لاتتوقف هنا، فقد حاول الإنسان إستخدام العلم للتنبؤ بالمُستقبل وقام بإستخدام معادلات حسابية مُعقدة لكنه لم يفلح بذلك! وتنص النظريات الفلسفية على أن الله عز وجلّ عندما خلق العالم أعطاه نفحة غموض من شأنها أن تمنع الإنسان من التنبؤ بالمستقبل. هذا الغموض يأتي من عدد الخيارات الهائل الذي يواجه الإنسان ويمنعه من معرفة السيناريو الذي يُمكن أن يحصل في المُستقبل. وعلى هذا الصعيد تمّ العمل على نظريات إحصائية تعتمد على الماضي لتوقع المُستقبل وخصوصاً في ما يخص الكميات الاقتصادية. لكن هذه النظريات أوصلت العلماء إلى نماذج حسابية لها قدرة تفسيرية لكنها تفتقر إلى القدرة التنبؤية من هذا المُنطلق يعمل العلماء على الحد من عدد السيناريوهات المُمكنة من خلال دراسة عوامل تؤثر على الكمية موضوع الدرس وبالتالي تحديد إتجاهات صعودية أو إنخفاضية لهذه الكميات. وبأفضل الأحوال إستطاع الإنسان وضع حد أدنى وسقف لتغيرات الكمية موضوع الدرس العوامل التي تؤثر على أسعار العقاراتإن سوق العقارات هو سوق مُعقد ويخضع لعدة عوامل إجتماعية، إقتصادية، مالية، سياسية وحتى جغرافية. وفي ظل نظام السوق الحر، تأتي هذه العوامل لتؤثر على العرض والطلب وبالتالي على السعر الذي هو نتيجة العرض والطلب. لكن ميزة السوق اللبناني تأتي من ناحية أن سوق العقارات وتحت تأثير هذه العوامل أصبح سوقاً منحازاً لا يخضع بالضرورة لسوق العرض والطلب على الرغم من أن الاقتصاد اللبناني هو سوق حرّ منصوص عليه في الدستور اللبناني. ومن بين هذه العوامل نذكر: أولاً جغرافيا لبنان: يُعدّ لبنان بوابة الغرب إلى الشرق. فموقعه الجغرافي على شرق البحر المُتوسط جعل منه مرغوباً منذ قدم الدهور، وأضافت ليونة مناخه رغبة للإستجمام والإستثمار حتى أن الفرنسيين فكّروا بجعله الخزان الزراعي لأوروبا. وشهد لبنان هجمة سياحية في ستينات القرن الماضي أدّت إلى تطوير قطاعه العقاري نسبة إلى المعايير السائدة في ذلك الوقت. لكن الحرب الأهلية التي عصفت به في منتصف سبعينات القرن الماضي إلى أوائل التسعينات، أدّت إلى تدمير الكثير من المباني والمُنشأت السياحية. ومع إنتهاء الحرب وبدء مشروع إعادة بناء وسط بيروت أخذ القطاع بالتطور بشكل سريع وزاد من سرعة تطوره، البنية التحتية من طرقات ومرافق عامة تمّ إعادة بنائها كما وفتح طرقات جديدة أخذت بوصل المناطق ببعضها البعض. هذا الأمر وبُعيد الانسحاب السوري في العام 2005، سمح بنهضة عقارية إستمرّت حتى العام 2010. هذه النهضة لم يكن لها مثيل في دول العالم حيث أخذت المساحات الصالحة للبناء بالتقلص تدريجياً حتى بدأت تطال المناطق البعيدة عن بيروت، ساعدها في ذلك الطرقات التي سهّلت التنقل بين المناطق. وأدّت قلة الأراض الصالحة للبناء إلى لعب دور أساسي ومهم في المُحافظة على أسعار عالية للشقق والعقارات بحكم أن العرض قلّ مع ارتفاع في الطلب خلال أعوام المجد. وحتى الساعة يلعب هذا العامل دور أساسي في عدم إنخفاض الأسعار. وقد يتسأل البعض لماذا لا تنطبق هذه القاعدة على قبرص التي توجد في نفس حالة لبنان من ناحية المساحات الصالحة للبناء، وأسعار الشقق فيها لا تتجاوز الـ 35 ألف دولار؟ والسبب بكل بساطة يعود إلى كون لبنان بلداً عربياً وله منافذ برّية على الدول الأخرى ما يُسهّل حركة التجارة وبالتالي يجعله موضع رغبة ثانياً تزايد عدد السكان: بلغ عدد سكان لبنان بحسب البنك الدولي 1.8 مليون نسمة في العام 1960. وأخذ هذا العدد بالإرتفاع حتى الحرب الأهلية حيث واجه ركوداً مع ارتفاع عدد القتلى والحدّ من الإنجاب جرّاء هذه الحرب. لكنه ما لبث أن أخذ بالإرتفاع مُجدداً في العام 2001 ليصل إلى 4.467 مليون نسمة في العام 2013 مُحققاً بذلك زيادة بقيمة 1.1 مليون نسمة في أقل من 12 عاماً! هذا الأمر وحده كان كفيلاً برفع الطلب على العقارات بشكل ملحوظ خصوصاً من قبل السكان المحليين إذ إرتفع الطلب بنسبة 90% ما بين العامين 2006 و2010 ليعود بعدها وينخفض بنسبة 30% ما بين العامين 2010 و2015 مما لا شك فيه أن الأوضاع الاقتصادية لعبت دوراً أساسياً في خفض نسبة الولادات في الأعوام الأخيرة لكن هذا الأمر لن يمنع عدد السكان من الإزدياد في المُستقبل وذلك للأسباب التالية: (1) حتى ولو إنخفضت نسبة عدد الأطفال في العائلة الواحدة، إلا أن عدد السكان الكبير يُعوض هذا الإنخفاض لتكون النتيجة الإجمالية إرتفاعاً أكبر في عدد السكان؛ (2) إن فتح باب إستعادة الجنسية للبنانيين المُغتربين سيسمح بزيادة عدد السكان ولو بنسبة قليلة وبالتالي فإن من إستعاد جنسيته اللبنانية سيعمد حكماً إلى شراء شقة له في لبنان ثالثاً العامل المذهبي: عملت الحرب الأهلية (1975-1990) دوراً أساسياً في الفرز الطائفي للمجتمع اللبناني حيث تمّ فرز المناطق على أساس مذهبي وإنسحب ذلك على القطاع العقاري. وعمدت الأقليات إلى بيع عقاراتها في بعض المناطق للتوجه إلى مناطق أخرى من نفس الطائفة. وفي الأعوام التي تلت عدوان تمّوز 2006، ظهر إلى العلن ظاهرة جدية وهي الفرز المذهبي ما زاد من حدة الفرز العقاري. هذا الواقع تترجم بحجب قسم من العرض عن المواطن اللبناني وجعله يستفيد فقط من قسم من العرض الإجمالي على كامل الأراضي اللبنانية. وبالتالي إنحصرت خيارات المُستثمر اللبناني في في بعض المناطق المُتاحة له. هذا الواقع إضافة إلى غياب التوازن الإنمائي المناطقي، دفع بالطلب في بعض المناطق إلى الإرتفاع بنسبة أكبر مما هي عليه في المناطق الأخرى كمنطقة بيروت وجبل لبنان التي وصلت فيها الأسعار إلى مستويات ليست بمقدور الطبقة الفقيرة وحتى المتوسطة الوصول إليها. فعلى سبيل المثال، يبلغ سعر المتر المربع الواحد للشقة في بيروت الإدارية الالاف وحتى عشرات الالاف من الدولارات الأميركية رابعاً تحاويل المُغتربين: لعبت تحاويل المُغتربين دوراً أساسياً في ارتفاع أسعار الشقق في لبنان وذلك من خلال لجوء ذوي المُغتربين إلى إستخدام قسم من هذه التحاويل لتمويل العمليات العقارية كما يُظهره الرسم. وفي التفاصيل أنه وبحسب دراسة قامت بها جامعة القدّيس يوسف، إستخدم اللبنانيون تحاويل المُغتربين في تحسين أوضاعهم الاجتماعية مثل شراء المواد الغذائية، تأمين دفعة أولى لشراء عقارات، وإيداع المُتبقي في المصارف اللبنانية. ويُظهر الرسم الذي يجمع تحاويل المُغتربين والعمليات العقارية التي حصلت أنه عند ارتفاع هذه التحاويل إرتفعت العمليات العقارية والعكس بالعكس. والمُلاحظ أنه ما بين العامين 2014 و2015، إنخفضت تحويلات المُغتربين بنسبة 3.8% وفي المقابل إنخفضت العمليات العقارية بنسبة 10.37%. إلا أن هذا لا يعني أن سبب الإنخفاض يعود حصرياً إلى تراجع التحويلات. فالكل يعلم أن الأوضاع الاقتصادية تراجعت بشكل ملحوظ وعمدت العديد من الشركات إلى صرف الموظفين اللبنانيين وإستبدالهم بعمّال سوريين مما قلل من الطلب أيضاً. وبحسب التحاليل غير الموثّقة بالأرقام، يعود إنخفاض تحاويل المُغتربين إلى إنخفاض أسعار النفط وبالتالي ذهب بعض المُحللين إلى القول بأن هناك إنهيار سنشهده في القطاع العقاري. إلا أن ما غاب عن بال هؤلاء أن النفط إنخفض بنسبة 70% لتنخفض التحاويل بنسبة 3.8% وهذا يعني أن إستمرار إنخفاض أسعار النفط (المُستبعد) لا يُمكن أن يؤثر جذرياً بتحاويل المُغتربين بحكم أن المُغتربين الذين يعملون في دول نفطية لا يُشكلون أكثر من 20% من مجمل التحاويل! خامساً هيكلة الإقتصاد اللبناني: إن هيكلية الاقتصاد اللبناني هي المسؤول الأول عن تراجع القطاع العقاري من ناحية أن الاقتصاد اللبناني لا يستطيع إستيعاب اليد العاملة اللبنانية وبالتالي لا يُمكن للمُقيم أن يقوم بعمليات شراء عقارات إذا لم يكن يمتلك وظيفة ورأس مال كدفعة أولى. ولحلّ هذه المُشكلة عمد العديد من شباب لبنان إلى الهجرة إلى دول الخليج والدول الأفريقية، وقاموا بتجميع دفعة أولى لشراء شقة إضافة إلى خبرة تسمح لهم بإيجاد عمل في لبنان. وإعتمدوا بهذا السيناريو على القروض المصرفية التي سهّلها مصرف لبنان والمصارف التجارية بحيث أصبحت القروض العقارية تُشكّل 35% من مُجمل القروض إلى القطاع الخاص. وبالتالي أصبح هذا القطاع مصدر إهتمام لمصرف لبنان الذي لن يسمح بإنهياره تحت أي ثمن لأن في ذلك ضربة قوية للقطاع المصرفي وكلنا نعلم أن إنهيار القطاع العقاري يعني subprimes على الطريقة الأميركية وبالتالي أزمة مصرفية بحكم أن ضمانة المصرف للقرض المُعطى للمُستثمر هو العقار بحد ذاته، وبالتالي لا يُمكن السماح لقيمة هذه الضمانة بالإنهيار لماذا لن ينهار القطاع العقاري؟الأسعار في القطاع العقاري لن تنهار لأن مصرف لبنان لن يسمح بذلك حفاظاً على القطاع المصرفي وعلى الاقتصادي اللبناني نظراً إلى أن القطاع العقاري يُشكل 17% من الناتج المحلّي الإجمالي و35% من القروض المصرفية إلى القطاع الخاص. أيضاً وفي ظل منطقة مُشتعلة، يبقى لبنان من أكثر البلدان الشرق أوسطية أماناً والمُرشح الأول لأن يكون قاعدة لإعادة إعمار سوريا أي أن الطلب على العقارات سيزداد من المُقيمين والمُغتربين في آن واحد. يبقى القول أن إقتناع المُطوّر العقاري كما والمُستثمر بأن الأسعار ستعاود الإرتفاع ولو في المُستقبل البعيد، يبقى السبب الأول في عدم خفض أسعار الشقق وإذا ما رأينا عمليات تتم بأسعار مُنخفضة فإنها تعكس قبل كل شيء حاجة البائع إلى السيولة