حلّ رمضان الكريم وعادت معه السجالات بخصوص ارتفاع أسعار السلع وخصوصاً المواد الغذائية منها. وبين تضارب أرقام وزارة الاقتصاد والتجارة وأرقام جمعية حماية المُستهلك، يُظهر التحليل الاقتصادي أن إنخفاض الأسعار هو واقع أصبح يُشكّل تهديداً لبعض القطاعات الاقتصادية مثل الزراعة التي يُواجه فيها بعض المزارعون خطر الإفلاس.السوق اللبناني، كما هو منصوص عليه في الدستور، هو سوق حرّ يخضع لقانون العرض والطلب وبالتالي فإن أسعار السلع والخدمات ترتفع مع ارتفاع الطلب وتنخفض مع إنخفاض هذا الأخير. لكن الواقع على الأرض يبقى مُغايراً لهذا المبدأ بحكم الطبيعة الإحتكارية للسوق اللبناني والتي تأتي من قلّة عدد تجّار الجملة.نقص في التشريعات…وإذا ما كانت القوانين في الدول المُتطورة ترعى العلاقة بين التجّار فيما بينهم في ما يخص التنافسية، يفتقد القانون اللبناني إلى مثل هذه التشريعات حيث ينام في أدراج مجلس النواب مشروع قانون المنافسة وذلك منذ العام 2012.غياب هذه التشريعات فرضت نوع طبيعي من الإحتكار حيث أن تجّار الجملة وبحكم قلة عددهم، يخلقون نوعاً من الإحتكار يُسمّى بالـ Oligopoly والذي يأتي من قدرة هؤلاء التجار على التحكم بأسعار السوق.وتُحرّم القوانين في الإقتصادات المُتطورة الاتفاق الضمّني بين التجّار للحفاظ على مستوى عال من الأسعار، لكن قلة عدد التجار يفرض إحتكاراً طبيعياً في الأسواق حتى ولو لم يتفق التجار في ما بينهم. وفي التفاصيل وبحسب الباحث الاقتصادي كورنو (Cournot) يُحدد التاجر سعر البيع على أساس توقعاته لما قد يضع المنافس من سعر. وهنا تبرز المشكلة في أن التجّار في لبنان يعرفون أن المُنافس لن يُخفّض أسعار وبالتالي لا يُخفّضوا الأسعار.دور السلطات الرقابية…وهنا يأتي دور السلطات الرقابية، كحماية المُستهلك، لكسر هذا الإحتكار الطبيعي الناتج عن قلّة عدد التجّار. إلا أن السلطات الرقابية في لبنان تفتقر إلى كل المُعطيات للقيام بواجبها وبالتحديد معرفة سعر الكلفة على التاجر. هذا الأمر يأتي من منطلق أن الاقتصاد غير الرسمّي (لا تدخل العمليات في نطاق التصريح الرسمي) يُشكّل نسبة كبيرة من الاقتصاد اللبناني – أكثر من 30%.وإستطاعت وزارة الاقتصاد والتجارة لجمّ ظاهرة الإحتكار إلى حدٍ بعيد مُتسلحة بالمرسوم الإشتراعي 7383 وقانون حماية المُستهلك. إلا أن الضعف في مراقبة الحدود كما وعدد العمليات التجارية غير المُسجّلة رسمياً، تبقى المانع الأول في كسر الإحتكار بالكامل. وبالتالي لا يُوجد أي حلّ لهذه الظاهرة إلا بزيادة عدد تجّار الجملة من خلال قوانين دعم مالي وإداري وضريبي.أسعار المواد الغذائية…الأسعار في شهر رمضان الكريم ترتفع مع ارتفاع الطلب وتطال بشكل خاص المواد الغذائية التي يستهلكها المواطنون. وبحسب جمعية المُستهلك، إرتفعت أسعار المواد الغذائية وطال بعضها كأسعار الفروج والمقطّعات بنحو 20 إلى 30%. أما وزراة الاقتصاد والتجارة فقد صرّحت أن أسعار المواد الغذائية إنخفضت كلها كالفروج الذي إنخفض سعره في أول أسبوع من شهر رمضان الكريم 4% عن الأسبوع الذي سبقه.العوامل الاقتصادية…إن تحاليل العوامل الاقتصادية تُشير إلى أن الإنخفاض في الأسعار هو واقع أكيد. فالمشاكل التي يواجهها المزارعون اللبنانيون (مثلاً) من ناحية تصدير بضائعهم، تدفعهم إلى خفض الأسعار بشكل ملحوظ لتصريفها داخلياً خصوصاً أن بعض المنتوجات الزراعية تحتاج إلى تصريف بأي ثمن تحت طائلة خسارتها بالكامل. أضف إلى ذلك الصعوبات التي بدأت بالظهور عند التصدير إلى الخارج والتي تتمثل بالكلفة الإضافية على النقل إلى الخليج العربي كما والبرودة الخليجية في شراء البضائع اللبنانية نتيجة توتر العلاقات بين الدول الخليجية ولبنان.أيضاً هناك ظاهرة عبّر عنها مربّو الدواجن في لبنان ألا وهي إستيراد فراريج بكميّات كبيرة من البرازيل والتي تدخل لبنان عبر البوابة الخليجية وتُنافس الفروج اللبناني. وهذا الأمر يطال عدد كبير من المواد الغذائية والسلع الأخرى بحكم أن الحدود البريّة مع سوريا غير مضبوطة بالكامل. ولايُمكن نسيان الإحتجاجات التي يقوم بها المُزارعون لحثّ الدولة على منع إستيراد المواد الغذائية.كما يُمكن ذكر إنخفاض أسعار صرف اليورو وعدد أخر من العملات كالليرة التركية مقابل الدولار والذي ساعد في تخفيف كلفة البضائع المُستوردة مدعومة بإنخفاض أسعار النقل التي تأثرت إلى حدٍ بعيد بإنخفاض أسعار النفط.أرقام الإحصاء المركزي…تُشير أرقام الإحصاء المركزي إلى أن أسعار المواد الغذائية والمشروبات غير الروحية إنخفضت بنسبة 1.88% بين شهري أذار ونيسان 2016. وبقيت أسعار المطاعم والفنادق على حالها كما وأسعار المشروبات الروحية والتبغ والتنباك.من جهة أخرى إرتفعت أسعار الألبسة والأحذية بنسبة 1.98% على نفس الفترة وإنخفضت أسعار الأثاث والتجهيزات المنزلية والصيانة المستمرة للمنزل بنسبة 0.13% وكذلك الأمر بالنسبة إلى الإستجمام والتسلية والثقافة التي إنخفضت بشكل طفيف بنسبة 0.07%.كل هذا للقول أن إدارة الإحصاء المركزي تؤكد المنحنى التنازلي لأسعار السلع والخدمات في لبنان. وإذا ما كانت أرقام الإحصاء المركزي لا تشّمل الأسبوع الأول من شهر رمضان، إلا أن الأتجاه وحده كفيل بإعطاء فكرة واضحة عن إتجاه الأسعار في شهر رمضان الكريم إذ أن العوامل الاقتصادية الآنفة الذكر تدهورت كلها بالإجمال وبالتالي لا يُمكن للطلب مهما إرتفع في شهر رمضان الكريم أن يُعوّض إنخفاض الأسعار بالكامل.خطر على بعض القطاعات…إن إنخفاض الأسعار جيد بالمطلق لأنه يسمح بزيادة القدرة الشرائية للمواطن. إلا أن الإنخفاض المُستمرّ في الأسعار وخصوصاً أسعار المواد الغذائية قد يُشكلّ خطر على المزارعين والصناعيين (حجم متوسط إلى صغير)، فعدم بيع السلع والمواد الغذائية من قبل المزارعين والصناعيين بربحية كافية، قد يقضي عليهم وبالتالي سيكون هناك نقص أكيد في العرض ما يعني ارتفاع حتمي للأسعار.من هنا أهمية تدخّل الدولة لحماية المنتوجات اللبنانية والقطاعات المُنتجة لها عبر سنّ قوانين تشريعية تُقلّل من نفوذ تجّار الجملة وتدّعم تطوير القطاعات المعنية من خلال خلق أسواق لبيع المنتوجات مباشرة إلى المُستهلك النهائي (مثل سوق الخضرة). أيضاً يتوجب على الدولة دعم هذه القطاعات من خلال سياسة إقتصادية وضريبية ومالية تسمح بتطوير هذه القطاعات بشكل يُتيح لها تخفيض الكلفة ما يعني تحسّن الإنتاجية والحفاظ على أسعار مقبولة بالنسبة للمستهلك.إنخفاض الأسعار والنمو الاقتصادي…الرقم القياسي لأسعار الإستهلاك هو عبارة عن مؤشر مُركب من مؤشرات الأسعار على مُختلف أبواب الإنفاق التي تقوم إدارة الإحصاء المركزي بقياسها: المواد الغذائية والمشروبات غيرالروحية، مشروبات روحية وتبغ وتنباك، الألبسة والأحذية، مسكن ماء وغاز وكهرباء ومحروقات أخرى، ايجار، القيمة التاجيرية للمالكين، ماء وغاز وكهرباء ومحروقات أخرى، أثاث وتجهيزات منزلية وصيانة مستمرة للمنزل، الصحة، النقل، الاتصالات، الإستجمام والتسلية والثقافة، التعليم، مطاعم و فنادق، وسلع وخدمات متفرقة.إن النمو الاقتصادي في بلد مُعيّن يواكبه بشكل تلقائي تضخّم – أي ارتفاع في الأسعار. ويستخدم الإقتصاديون التضخّم كمؤشر أولي للنمو الاقتصادي (Advanced Indicator)، وبالتالي يُمكن القول أن غياب التضخم يعني غياب النمو.وتُشير الأرقام إلى أن الرقم القياسي لأسعار الإستهلاك إرتفع في شهري أذار ونيسان 2016 حيث سجّل المؤشر إرتفاعاً بنسبة 0.49% في أذار و0.73% في شهر نيسان. وهذا يعني أن الإقتصاد اللبناني وفي حال إستمرّت الأسعار على ما هي عليه، سيُسجّل نمواً بحدود الـ 1% إلى 1.5% كحدٍ أقصى. من هذا المُنطلق يتوجب أن ترتفع الأسعار إقتصادياً أي أن يكون الإرتفاع في هذه الأسعار آت نتيجة ارتفاع عدد العاملين (مما يزيد الطلب حتماً) وليس نتيجة الإحتكار من قبل التجّار.